فصل: (سورة غافر: آية 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

.[سورة غافر: الآيات 41- 42]:

{وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)}.
فإن قلت: لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة. وفيه: أنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم، وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه، فإنّ سرورهم سروره، وغمهم غمه، وينزلوا على تنصيحه لهم، كما كرر إبراهيم عليه السلام في نصيحة أبيه: يا أبت. وأما المجيء بالواو العاطفة، فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. يقال: دعاه إلى كذا ودعاه له، كما تقول: هداه إلى الطريق وهداه له {ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفى المعلوم، كأنه قال: وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلها.

.[سورة غافر: الآيات 43- 44]:

{لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)}.
{لا جَرَمَ} سياقه على مذهب البصريين: أن يجعل لا ردّا لما دعاه إليه قومه. وجرم: فعل بمعنى حق، وأنّ مع ما في حيزه فاعله، أي: حق ووجب بطلان دعوته. أو بمعنى: كسب، من قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا} أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
ويجوز أن يقال: أن لا جرم، نظير: لا بدّ، فعل من الجرم، وهو القطع، كما أن بدّا فعل من التبديد وهو التفريق، فكما أن معنى: لابد أنك تفعل كذا، بمعنى: لا بعد لك من فعله، فكذلك لا جرم أن لهم النار، أي: لا قطع لذلك، بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع، لبطلان دعوة الأصنام، أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقا. وروى عن العرب: لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء، بزنة بد، وفعل وفعل: أخوان. كرشد ورشد، وعدم وعدم {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} معناه: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، أى: من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم وما تدعون إليه وإلى عبادته، لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية، ولو كان حيوانا ناطقا لضجّ من دعائكم.
وقوله {فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ} يعنى أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره، وفي الآخرة: إذا أنشأه اللّه حيوانا، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته. وقيل معناه ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة. أو دعوة مستجابة، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة فيها كلا دعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان. قال اللّه تعالى {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشيء} {الْمُسْرِفِينَ} عن قتادة: المشركين. وعن مجاهد: السفاكين الدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون. وقرئ: {فستذكرون} أى: فسيذكر بعضكم بعضا {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} لأنهم توعدوه.

.[سورة غافر: الآيات 45- 46]:

{فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)}.
{فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا} شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم. وقيل: نجا مع موسى {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} ما هموا به من تعذيب المسلمين. ورجع عليهم كيدهم النَّارُ بدل من سوء العذاب. أو خبر مبتدإ محذوف، كأن قائلا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار. أو مبتدأ خبره يُعْرَضُونَ عَلَيْها وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها، وعرضهم عليها: إحراقهم بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به، وقرئ: {النار} بالنصب، وهي تعضد الوجه الأخير. وتقديره: يدخلون النار يعرضون عليها. ويجوز أن ينتصب على الاختصاص غُدُوًّا وَعَشِيًّا في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك اللّه أعلم بحالهم، فإمّا أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم.
ويجوز أن يكون {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} عبارة عن الدوام. هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم أَدْخِلُوا يا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ عذاب جهنم. وقرئ: {أدخلوا آل فرعون} أى: يقال لخزنه جهنم: أدخلوهم. فإن قلت: قوله {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} معناه: أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، فإذا فسر سوء العذاب بنار جهنم: لم يكن مكرهم راجعا عليهم، لأنهم لا يعذبون بجهنم. قلت: يجوز أن بهم الإنسان بأن يغرق قوما فيحرق بالنار، ويسمى ذلك حيقا لأنه همّ بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء. ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه، ويجوز أن بهمّ فرعون- لما سمع إنذار المسلمين بالنار، وقول المؤمن {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ} فيفعل نحو ما فعل نمروذ ويعذبهم بالنار، فحاق به مثل ما أضمره وهمّ بفعله. ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر.

.[سورة غافر: آية 47]:

{وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)} واذكر وقت يتحاجون تَبَعًا تباعا، كخدم في جمع خادم. أو ذوى تبع، أي: أتباع، أو وصفا بالمصدر.

.[سورة غافر: آية 48]:

{قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48)} وقرئ. {كلا} على التأكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كلنا. أو كلنا فيها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون كلا حالا قد عمل {فِيها} فيها؟.
قلت: لا لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمه كما يعمل في الظرف متقدما تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول قائما في الدار زيد {قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ} قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

.[سورة غافر: الآيات 49- 50]:

{وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)}.
{لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} للقوّام بتعذيب أهلها. فإن قلت: هلا قيل: الذين في النار لخزنتها؟ قلت: لأن في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا، من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر، وقولهم في النابغة: جهنام، تسمية بها، لزعمهم أنه يلقى الشعر على لسان المنتسب إليه، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر:
قليذم من العياليم الخسف

وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الوكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من اللّه تعالى، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ} إلزام للحجة وتوبيخ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع، وعطلوا الأسباب التي يستجيب اللّه لها الدعوات {قالُوا فَادْعُوا} أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين، وليس قولهم {فَادْعُوا} لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة، فإنّ الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه، فكيف يسمع دعاء الكافر.

.[سورة غافر: الآيات 51- 52]:

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}.
{فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} أي في الدنيا والآخرة، يعنى أنه يغلبهم في الدارين جميعا بالحجة والظفر على مخالفيهم، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانا من اللّه، فالعاقبة لهم، ويتيح اللّه من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين: والأشهاد. جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} واليوم الثاني بدل من الأوّل، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة، وأنهم لو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} البعد من رحمة اللّه {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي سوء دار الآخرة وهو عذابها. وقرئ: {تقوم} و{لا تنفع} بالتاء والياء.

.[سورة غافر: الآيات 53- 54]:

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)} يريد بالهدى جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع {وَأَوْرَثْنا} وتركنا على بنى إسرائيل من بعده {الْكِتابَ} أي التوراة {هُدىً وَذِكْرى} إرشادا وتذكرة، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال. وأولو الألباب: المؤمنون به العاملون بما فيه.

.[سورة غافر: آية 55]:

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)}.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يعنى أنّ نصرة الرسل في ضمان اللّه، وضمان اللّه لا يخلف، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بنى إسرائيل، واللّه ناصرك كما نصرهم، ومظهرك على الدين كله، ومبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض ومغاربها، فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدى من نصرتك وإعلاء كلمتك حق، وأقبل على التقوى واستدرك الفرطات بالاستغفار، ودم على عبادة ربك والثناء عليه بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ وقيل: هما صلاتا العصر والفجر.

.[سورة غافر: آية 56]:

{إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}.
{إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} إلا تكبر وتعظم، وهو إرادة التقدّم والرياسة، وأن لا يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدّمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة. أو إرادة أن تكون لهم النبوّة دونك حسدا وبغيا. ويدل عليه قوله تعالى: {لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ} أو إرادة دفع الآيات بالجدال {ما هُمْ بِبالِغِيهِ} أي ببالغي موجب الكبر ومقتضية، وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوّة أو دفع الآيات.
وقيل: المجادلون هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود، يريدون الدّجال، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات اللّه فيرجع إلينا الملك، فسمى اللّه تمنيهم ذلك كبرا، ونفى أن يبلغوا متمناهم {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فالتجئ إليه من كيد من يحسدك ويبغى عليك {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لما تقول ويقولون {الْبَصِيرُ} بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.

.[سورة غافر: آية 57]:

{لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)}.
فإن قلت. كيف اتصل قوله {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} بما قبله؟ قلت: إن مجادلتهم في آيات اللّه كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن اللّه خالقها وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله {لا يَعْلَمُونَ} لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم.

.[سورة غافر: آية 58]:

{وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58)} ضرب الأعمى والبصير مثلا للمحسن والمسيء. وقرئ: {يتذكرون} بالياء والتاء، والتاء أعم.

.[سورة غافر: آية 59]:

{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)}.
{لا رَيْبَ فِيها} لابد من مجيئها ولا محالة، وليس بمرتاب فيها، لأنه لابد من جزاء {لا يُؤْمِنُونَ} لا يصدقون بها.

.[سورة غافر: آية 60]:

{وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)}.
{ادْعُونِي} اعبدوني، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن. ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي} والاستجابة: الإثابة وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن وقد سئل عنها: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على اللّه أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. وعن الثوري أنه قيل له: ادع اللّه، فقال. إن ترك الذنوب هو الدعاء. وفي الحديث «إذا شغل عبدى طاعتي عن الدعاء أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» وروى النعمان بن بشير رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويريد بعبادتي: دعائي، لأنّ الدعاء باب من العبادة ومن أفضل أبوابها، يصدقه قول ابن عباس رضى اللّه عنهما: أفضل العبادة الدعاء. وعن كعب: أعطى اللّه هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلا نبيا مرسلا: كان يقول لكل نبىّ أنت شاهدي على خلقي، وقال لهذه الأمة {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} وكان يقول: ما عليك من حرج، وقال لنا {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وكان يقول: ادعني أستجب لك، وقال لنا {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وعن ابن عباس: وحدوني أغفر لكم، وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد {داخِرِينَ} صاغرين.